لماذانحب العطل و نكره العمل؟
لا يمكن القول أن جميع الناس يكرهون العمل. و ربما لا يمكن الجزم أيضا أن كلهم يحبون العطل. لكن، إذا حصرنا الحديث في في مجتمعاتنا العربية، لا أعتقد أننا سنختلف كثيرا حول ندرة الأفراد الذين يحبون عملهم فعلا . فأغلب الموظفين ينتظرون العطلة على أحر من الجمر، و يشكون من ظروف عملهم، و يتمنون لو كان بإمكانهم الحصول على عمل أسهل أو أفضل. فيظلون مشتاقين للعطلة _ أو الإجازة_ طول السنة، بينما خلال العطلة لا يشتاقون للعمل أبدا، بل يتمنون ألا تنتهي العطلة أو أن تدوم أكثر.
هل يمكن أن يكون هذا الشعور طبيعيا و صحيا؟ أليس العمل عبادة في ثقافتنا؟ أليس العمل نشاطا و حركة و إنتاجية، و كذلك إثباتا للذات و مساهمة في التنمية و شغلا للوقت و العقل؟
من الطبيعي أن نحتاج للعطل و نحبها لأنها فرصة للراحة بعد التعب و مناسبة للاستجمام و ممارسة الهوايات من أجل إزالة الضغط و تجديد النشاط. لكن الأمر الذي لا يبدو طبيعيا هو كراهية العمل و تفضيل العطل بطريقة مبالغ فيها.
هذا الشعور يشير إلى وجود خلل ما. فالمفروض أن العمل نشاط إيجابي و إنتاجي يزاوله الإنسان في مكان يعتاد عليه فيصبح مثل بيته، و مع أناس يستأنس بهم فيصيرون مثل أسرته. المطلوب أن يحب الإنسان عمله و مكان عمله، و أن يشعر ببعض الحنين و بعض الاشتياق إليه حين يبتعد عنه لفترة طويلة.
من ناحية أخرى، إذا لم يحب المرء عمله، فمن المستبعد_ إن لم يكن من المستحيل_ أن يتقنه و يخلص و يبدع فيه. و هذا يمثل مشكلة حضارية و اقتصادية و ثقافية كبيرة. فالأمة التي يكره جل أبنائها أعمالهم أو مهنهم يصعب و ربما يستحيل أن تتطور و تزدهر.
فيا ترى، ما هي الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة و هذا الموقف و الشعور السلبي اتجاه العمل؟ هل هو مجرد عيب في الشخصية العربية يتجلى في الكسل و الخمول و عدم الشعور بالمسؤولية اتجاه المجتمع و الوطن؟ أم أن هناك أسبابا موضوعية وراء ذلك؟
بدون تردد، أستطيع أن أجزم أن الفرضية الأولى لا يمكن أن تكون صحيحة. فمن غير المعقول أن يكون معظم أفراد المجتمع كسالى بالطبيعة و الفطرة. إذن، لا بد من وجود أسباب موضوعية وراء هذه الظاهرة السلبية. فما هي هذه الأسباب؟
بداية، يمكننا بسهولة ملاحظة أن المهن أو الوظائف التي يؤديها أغلب المواطنين في مجتمعاتنا العربية غير محببة لقلوبهم، حيث أنهم يتوجهون لعملهم كل يوم على مضض، و فقط لأنهم مضطرين لذلك. و تجدهم يشتكون باستمرار من ظروف العمل و ضغوطاته.
من المستبعد جدا أن يعود هذا لكونهم لا يحبون العمل عموما و يفضلون النوم و الكسل. بل من المرجح أن ذلك يعود لكون نوعية العمل الذي يقومون به ليس مما تهوى أنفسهم، و ليس ضمن ميولاتهم الشخصية. فقد بات من المعروف و المثبت أن حسن اختيار العمل المناسب لشخصية الإنسان شرط ضروري ن لتحقيق النجاح و السعادة. إلا أن الكثيرين يقومون باختيار خاطئ ليس مبنيا على ميولاتهم و شخصياتهم و مواهبهم، بل على رغبات آبائهم و أمهاتهم، و على ضغوطات المجتمع و تأثير ثقافته.
و الأدهى من ذلك أنه في أغلب الأحيان لا يملك المرء حرية اختيار مهنته لأن فرص العمل كما هو معروف محدودة جدا. و بالطبع، هروبا من شبح البطالة، يقبل معظم الشباب بأي فرصة تفتح أمامهم حتى لو كانوا يكرهون تلك المهنة و لا يطيقونها. فلنأخذ على سبيل المثال مهنة التعليم، هل كل من يتقدمون لاجتياز مباريات ولوج مدارس تكوين الأساتذة ممن يحبون هذه المهنة؟ أم أنها فرصة يتيمة يسارع لاقتناصها جل المتخرجين الذين يحق لهم ذلك محاولين ضمان وظيفة رسمية و دخل قار و محترم؟ أظن أن الجواب واضح لا خلاف حوله؟ لهذا السبب نجد عددا لا بأس به من الأساتذة لا يحبون عملهم على الإطلاق.
بالإضافة لهذا العامل، فإن ظروف العمل و أجواءه سواء في الإدارات العمومية، أو في الشركات العامة و الخاصة، أو في المؤسسات التعليمية، لا تساعد الموظفين و العمال على حب عملهم، بدءا من الفضاء غير المريح جسديا و نفسيا، و قلة المرافق المتوفرة في أماكن العمل، مرورا بساعات العمل الطويلة و غير المرنة، و انتهاءا بعلاقات العمل غير الإيجابية و غير المتوازنة، خصوصا بوجود مدراء متسلطين و أنظمة داخلية غير متوازنة وغير تضامنية و أحيانا غير إنسانية. تنضاف لكل هذا طرق التسيير التقليدية المتبعة في معظم الإدارات و المؤسسسات و الشركات و التي يمكن وصفها بالدكتاتورية و غير التشاركية.
هذه الأجواء السلبية تؤدي بطبيعة الحال إلى النفور و عدم الشعور بالانتماء للمؤسسة، و بالتالي عدم الشعور بأي حماس أثناء أداء العمل.
بناء على كل هذا، يمكننا التعرف على علاج هذه الظاهرة بسهولة. فلكي يكون ارتباطنا بعملنا ارتباطا عاطفيا قويا مليئا بالشغف و الحماس و النشاط و الإنتاجية، و كي نشتاق للذهاب إلى العمل، و نمضي أفضل الأوقات و نحن نؤدي عملنا، و كي نقوم بعملنا على أكمل وجه، بل و نبدع فيه، و نحقق نتائج رائعة، لا بد من تغيير الطريقة التي نختار بها المهن، و لا بد أيضا من تغيير ظروف و أجواء العمل في كل الإدارات و المؤسسات.
فاختيار المهنة لا بد أن ينبني أولا و قبل كل شيء آخر على ميولات الشخص و شخصيته، ثم على مواهبه و قدراته. و كي يتمكن الشباب من اختيار مهنهم بطريقة موفقة، يجدر بالآباء و الأمهات الكف عن الضغط على أبنائهم في اتجاه مهن معينة. و شباب اليوم يجب أن يتعرفوا جيدا على ميولاتهم و شخصياتهم و مواهبهم قبل القيام باختيار الشعبة التي يتخصصون فيها أثناء الدراسة، و المهنة التي يسعون إليها بعد التخرج. بهذه الطريقة يتمكنون من تحقيق النجاح و السعادة.
أما عن أجواء العمل و ظروفه، فلابد من جعلها أكثر دفئا و ودية و ديموقراطية. يمكن تحقيق ذلك بتبني أساليب الإدارة العصرية المبنية على وضوح الرؤية و الأهداف للجميع، و على التشارك و التعاون و روح الفريق. نحتاج في أماكن العمل لإرساء عادات جديدة أساسها المحبة و التكاتف و التشجيع المتبادل، بدل الأوامر و التآمر و اللوم و العتاب و العقاب.
تعليقات
إرسال تعليق