هل ( الحجاب ) واجب ديني؟

    

      

          تروج  حاليا حملة مكثفة ضد ( الحجاب ) تشارك فيها مواقع إلكترونية و صفحات فيسبوكية  ذات توجهات علمانية.  تحاول هذه الحملة التشكيك في وجوب ارتداء الحجاب في الإسلام، و إقناع  النساء المسلمات أن  القرآن الكريم لا ينص على ضرورة تغطية الشعر. و يحاول أصحاب هذه الحملة تأويل النصوص الواردة حول الموضوع بشكل يفرغها من معناها و يجعل مسألة اللباس الشرعي تبدو مجرد تقليد عرفي أو بدعة ابتدعها الفقهاء. و بغض النظر عن الجهة التي تقف وراء هذه الحملة و الأهداف الحقيقية من ورائها، فإني سأحاول هنا مناقشة الموضوع مناقشة موضوعية عقلانية لغوية و منطقية. و كلي أمل أن قراء هذه المقالة يقرؤونها دون خلفيات و دون أحكام مسبقة، بذهنية منفتحة، و برغبة جادة في الفهم عن طريق التفكير المنطقي ، و بهدف التوصل إلى الحقيقة.

         تلك الحملة المنظمة ضد ما يسمى بالحجاب  تبذل جهدا كبيرا كي  تجد مخرجا لإلغاء النصوص الواردة في هذاالخصوص. و بما أن الادعاء بعدم وجود آيات في القرآن تحث على الحجاب أمر غير ممكن، لأن الاطلاع على تلك الآيات أمر متاح لكل من فتح المصحف و قرأ سورتي الأحزاب و النور، و كذلك الادعاء بأن القرآن مكذوب أو محرف شيء غير وارد لأن المسلمين لا يمكن ان يستمعوا لمثل هذا الكلام، فإن الحل الوحيد و الأمثل الذي بقي لهم هو محاولة تأويل النصوص بطريقة تلغي وجوب ارتداء الحجاب جملة و تفصيلا...  فهم يقولون: ما دام التأويل أمرمعمول به  من طرف الفقهاء و علماء الدين في قضايا عديدة،  فما المانع من القيام  به في هذا الأمر أيضا؟ و هكذا صاروا يروجون عددا من التأويلات  و التفسيرات التي تؤدي في النهاية إلى إلغاء وجوب تغطية الرأس في الإسلام.  مع أن النصوص لا تذكر تغطية الشعر فقط بل تتحدث عن ستر الجسد كله     و عن عدم التبرج أو التزين.  لكنهم يركزون على غطاء الشعر وحده، ربما لأنه هو الذي بقي تقريبا من(الحجاب) و هو الذي تلتزم به غالبية النساء المسلمات. كما أنه  الأكثر بروزا و لفتا للانتباه.  فينصب التأويل إذن على الآية التي تقول:  وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور/31   فيقولون أن الرأس و الشعر غير مذكورين في الآية. بل المذكور هو( الجيب) . و يستنتجون أن الله لم يأمر بتغطية الشعر بل بتغطية الجيب فقط. و يفسر الجيب تفسيرات مختلفة.  لكن كلها تشترك في كون  الجيب موجود في منطقة الصدر. و لكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء تفسير أو مجرد إشارة لكلمة ( خمرهن ) أو ربما يتعمدون تجنبها لأنها تبطل الاستنتاج الذي يريدون الوصول إليه. وكلمة ( خمر)  بضم الخاء و الميم جمع كلمة ( خمار). و ما هو ( الخمار) في اللغة العربية؟  ابحثوا عن معناه في جميع القواميس   و ستجدون أن أكثر المعاني ذكرا هو ( ما يغطى به الرأس.) و السبب في عدم ذكر القرآن لكلمة (رأس) أو كلمة (شعر) بكل بساطة هو أنه كان أمرا بديهيا و معمولا به أن تغطي النساء شعورهن بالخمرقبل مجيء الإسلام.   و ما دامت الآية تأمر بضرب الخمار على الجيب ( فتحة الثوب في منطقة الصدر) فإنه بالضرورة يؤكد على وضع الخمار على الرأس. فالنساء قبل نزول هذه الآية كن  يغطين الرأس و يتركن فتحة القميص مكشوفة فيبدو منها جزء من  الصدر. لذلك أمرهن الله بتغطية فتحة الثوب من جهة الصدر بالخمار الذي يضعنه على رؤوسهن. فيتضح بجلاء أن تغطية الشعر جزء أساسي من لباس المرأة المسلمة. هذه الآية واضحة جدا في معناها، و لا يمكن أن يفهم أي عاقل فاهم للغة العربية أنها تأمر بتغطية الصدر - فقط دون الرأس-  بالخمار الذي هو في الأصل غطاء للرأس.  بالإضافة لذلك، فإن كل القرائن و الدلائل من أحاديث و روايات و أحداث السيرة تدل على أن المسلمين الذين نزل القرآن في زمنهم فهموا الآية على أنها تنص_  ضمن ما تنص عليه_ على تغطية الرأس، و على ذلك الأساس تصرفوا و كان الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم. 

        أما الآية الأخرى التي تنص بوضوح على ضرورة الالتزام بالحجاب، فهي تركز على تغطية الجسد بالجلباب. تقول الآية: (  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) الأحزاب/59 . و الجلابيب جمع (جلباب) و هو ثوب واسع طويل يرتدى فوق الثياب و يغطي جميع الجسد. بالطبع لا يمكن أن نقول أن هناك شكلا واحدا للجلباب، لكن المهم هو الالتزام بالشروط التي يوفرها الجلباب و هي تغطية الجسد بشكل جيد . فكل لباس توفرت فيه هذه الشروط يعتبر جلبابا. 

      من ناحية أخرى، يحاول الكثيرون-  عربا و أجانب -  ربط الحجاب بالإرهاب! من الواضح أن هؤلاء واقعون تحت تأثير انحرافات الواقع و تناقضاته . فكل ما يحدث الآن في العالم  من إرهاب يؤثر بشكل رهيب على الانطباع العام حول الحجاب و حول الإسلام ذاته. فعمليات الإرهاب التي تحدث في العالم غالبا ما يربطها مرتكبوها بالإسلام. و للأسف فهم يرددون كلمة ( الله أكبر) عند تنفيذهم لبعض العمليات! و هذا جعل هذه الكلمة تصبح شعارا للإرهاب عند الكثيرين مع أنها في الحقيقة شعار للتوحيد ولتعظيم الله عز وجل.  كما أن ظهور نساء محجبات أحيانا في أحداث الإرهاب سواء كمشاركات فيه أو كقريبات للإرهابيين،  و ظهور نساء داعش بالحجاب أيضا، كل هذا  يعطي انطباعا بأن المحجبات هن مشاريع إرهابيات و أن الحجاب يعكس فكرا إرهابيا.  و طبعا هذا كله ناتج عن تفكير سطحي و عن عقلية التعميم و التنميط السائدة لدى كل البشر حتى في الدول المتقدمة.  فالغالبية من الناس تميل إلى اتباع انطباعاتها و إلى تعميم الأحكام و إلى عدم التمحيص و التمييز بين الناس على أساس أفكارهم و أعمالهم و ليس على أساس مظهرهم . والحقيقة الواضحة أن غالبية المسلمين المتدينين و غالبية المحجبات يرفضون الإرهاب و يمقتونه. وهناك فقط فئة صغيرة جدا من الجهلة الذين لا  يعرفون لا دينهم ولا عصرهم هم الذين يؤمنون بالإرهاب و يمارسونه، و هم الذين شوهوا الدين و المتدينين !  

      و من ناحية ثالثة، فإن الكثيرين من الأجانب و المسلمين يربطون بشدة بين الحجاب و التخلف، و بينه     و بين ظلم المرأة و التمييز ضدها! و لست أجد لذلك سببا منطقيا إلا الانطباع الذي تركه تخلف أمتنا و ثقافة التمييز ضد المرأة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية إلى أقصى حد! لكن هذا الظلم و التمييز ضد المرأة يقع على المحجبة و غير المحجبة. بل نجد الكثير من المحجبات أكثر تحررا و ثورة على التقاليد المهينة للمرأة من الكثير من غير المحجبات! فلباس المرأة _ سواء كان محتشما أو فاضحا _ لا علاقة له بوضعيتها و بحريتها    أو قهرها.  فالمرأة_ في الغالب_ هي التي تقرر ماذا و كيف تلبس.  و تغطية الشعر و اللباس المحتشم مسألة شخصية تعود للمرأة وحدها و لا أحد يملك الحق في التدخل في ملابسها. قد يكون هناك من الآباء من يجبر بناته على ارتداء الحجاب، كما قد يكون هناك من يمنع بناته من ارتدائه، و هذا يعود لرؤية أولئك الأباء التربوية الخاطئة، و لتوجهاتهم الدينية والفكرية و الثقافية. و من جهة أخرى، فستر الجسد و الشعر لا يحرم المرأة من أي شيء و لا يمنعها من أي نشاط. فلا أجد أي مهنة شريفة تتعارض مع ارتداء الحجاب، و لا أرى  أي نشاط نافع لا يمكن ممارسته بالزي الشرعي. بل حتى الرياضة يمكن ممارستها بلباس محتشم و رياضي في نفسي الوقت. و في أيامنا هذه،  نجد أنواعا مختلفة من الأزياء المحتشمة في الأسواق و التي تناسب جميع المناسبات و الأنشطة، من فساتين الحفلات إلى زي السباحة. فما الذي لا تستطيع المرأة القيام به و هي مرتدية زيها المحتشم الذي يلتزم بتعاليم  القرآن؟ بل إن المرأة المحجبة ليست مجبرة على التخلي عن رغبتها في الأناقة. فكل امرآة تختار ما يناسب ذوقها و قناعاتها من أزياء. من اقتنعت بالزي العصري لها أن ترتدي ما شاءت منه، و من اقتنعت بالجلباب المغربي أو بالعباءة الخليجية  لها أن ترتديه، و من اقتنعت بالبرقع فلها ذلك. المهم أن  لا تجبر على شيء من طرف أي أحد. لكن هذا لا يعني أن الوالدين ليس من حقهما أن يوجها بناتهما و يربيانهن على مبدإ الحشمة و العفة، و أن يغرسا في أذهانهما أنه جزء من الدين. فمن واجب الآباء تربية    و توجيه أولادهم ذكورا و إناثا لما فيه خيرهم في الدنيا و الآخرة. و طبعا كل شخص يوجه أولاده حسب إيمانه و قناعاته. لكن حين يكبر الأبناء، لا بد من إعطائهم حرية الاختيار حسب قناعاتهم حتى و إن تعارضت مع قناعات الوالدين، مع الحرص على مناقشة الأمور بهدوء و توجيه النصح بكل محبة و احترام لأفكار و قناعات أبنائهم. 

        و أخيرا، فإن  فكرة أن الحجاب قيد فكرة خاطئة و لا أساس لها. و العكس هو الصحيح. فالحجاب تحرر للمرأة. فهو يحررها من التشييء، أي من أن ينظر لها كجسد أو كشيء، يحررها من نظرات أصحاب النزوات المنتشرين في الشوارع و المقاهي و الأسواق و مقرات العمل، و في كل مكان. الحجاب يحرر المرأة من النظرة الدونية التي لا ترى فيها إلا جسدها و شعرها و جمالها، و تعتبرها أداة للتسلية و المتعة فقط. الحجاب يكرم المرأة و يفرض على الكل أن يحترمها و ينظر لها كإنسانة و كشخصية و فكر و توجه و خلق. و هو أيضا يحررها من سيطرة رغبتها في التزين و التجمل و يجعلها تركز على بناء شخصيتها و على المساهمة في تنمية مجتمعها بدل التركيزعلى جسدها و شعرها و جمالها...

       

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحرر من قيودك النفسية

لماذانحب العطل و نكره العمل؟